سوريا- ألغام الانتقال وتحديات بناء توافق وطني جامع

في سجلات التاريخ السوري الحديث، سيُذكر بأحرف من نور أن حقبة وجيزة لا تتعدى العشرة أيام كانت كفيلة بزعزعة أركان نظام استبدادي جاثم على السلطة لأكثر من نصف قرن، وأن فترة مماثلة تلت هذا التحول كانت كافية لإماطة اللثام عن تحديات كامنة و"ألغام" متوارية، فضلًا عن تلك الظاهرة للعيان. ولا يزال صدى هذه "الهزة" يتردد في أرجاء المنطقة، حيث تتشكل تحالفات جديدة وتتبلور رؤى مغايرة. هذه التداعيات العميقة ستؤثر لا محالة على السياسات والاستراتيجيات والعلاقات الدولية في الإقليم وخارجه، فكيف لا، ونحن نتحدث عن سوريا، قلب العروبة النابض ومحور الشرق الأوسط.
حالة من الضبابية والترقب تخيم على السوريين بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم، ولا يمكن لاحتفالاتهم العفوية بسقوط نظام الأسد الابن أن تخفي هذا الواقع أو تقلل من أهميته. هذه الاحتفالات، وإن كانت تعبر عن فرحة عارمة، إلا أنها تبقى بمثابة استفتاء شعبي عفوي أكثر منها تعبيرًا عن رؤية واضحة للمستقبل.
الغموض ذاته يسيطر على العواصم الإقليمية والعالمية المعنية بالشأن السوري، ويطغى على المساعي والتحركات السياسية والدبلوماسية المكثفة التي شهدتها المنطقة منذ مطلع شهر كانون الأول/ديسمبر. هذه الحالة ليست مجرد ردة فعل على سرعة التغيير المفاجئة، بل هي مدفوعة أيضًا بالألغام الكامنة في طريق الانتقال السياسي في سوريا، وبالقلق المتزايد حيال فرص النجاح في "تفكيكها" وتحييد تأثيرها المدمر.
بعد مرور أكثر من خمسة عقود على سنوات "الجمود الأسدي" في سوريا، بتنا اليوم أكثر وعيًا من أي وقت مضى بحجم الإرث الثقيل الذي خلفه نظام الأب والابن. ندرك تمامًا حجم التدخلات والمصالح الخارجية المتضاربة، والتي تصل أحيانًا إلى حد الصراع، على الأراضي السورية ومواردها.
سنركز في هذا المقال على استعراض بعض من أخطر هذه الألغام، وسنسبر أغوار الفرص والتحديات التي تواجه عملية تفكيكها وتطهير المشهد السوري من خطر انفجارها:
اللغم الأول:
يكمن في الغطرسة الإسرائيلية المدفوعة بطموحات توسعية وعدوانية، والتي تخفي وراءها مخططات تقسيمية خطيرة. إسرائيل التي ودعت "الشيطان الذي تعرفه"، لا تخفي قلقها وتحسباتها من "الشياطين التي لا تعرفها"، على حد تعبير المتحدثين باسم حكومة اليمين المتطرف.
إسرائيل لا تكتفي بـ"التحوط" عندما تتوسع في المنطقة العازلة وخارجها وصولًا إلى قمة جبل الشيخ ومشارف ريف دمشق، خوفًا من "المجهول القادم". بل إنها، وهي تشن أعنف الضربات الجوية في تاريخها، تسعى أيضًا إلى الانتقام من "الدولة السورية" وإعاقتها وتقويض قدرتها على البقاء والتطور في المستقبل.
وعلى الرغم من أنها تزعم أن أفعالها تأتي في سياق استباقي ووقائي، وأن جميع ترتيباتها تندرج في خانة "المؤقت"، إلا أن الخبرة العربية في الصراع مع هذا الكيان تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن كل "مؤقت" في إسرائيل هو "دائم"، ما لم يتم إجبارها على الرضوخ لغير ذلك.
إن التدقيق العميق في أقوال وأفعال إسرائيل الهمجية على الأرض وفي السماء يكشف عن مستويين من التفكير الإسرائيلي تجاه سوريا:
- الأول: تكتيكي، ينطلق من نظرية القلعة والجدران والأحزمة الأمنية والمناطق العازلة، وتجريد العدو من عناصر قوته ومنعته.
- أما الثاني: فهو استراتيجي يتعلق بمستقبل الدولة والكيان والمكونات. وهنا نعود مرة أخرى إلى جدعون ساعر، الذي استخرج من أرشيف الحركة الصهيونية المبكرة مشاريع التفتيت والتقسيم على أسس طائفية ومذهبية وعرقية. ولا هدف من ذلك سوى تحويل كيانه إلى "أكبر أقلية" في المشرق العربي، وتسويق وتبرير مشروع "يهودية الدولة".
إن "حلف الأقليات" الذي يروج له قادة تل أبيب بدأ بالفعل بتقديم الدعم والإسناد لكيانية "درزية" تشكل منطقة عازلة لإسرائيل عن "الأكثرية العربية السنية" شمالًا، ودعم كيان كردي انفصالي شمال البلاد.
يطلق أثر الدومينو تفكيكًا وتقسيمًا لأربع دول كبرى في المنطقة، تقع جميعها في خانة الدول المعادية (أو غير الصديقة) لإسرائيل، وهي إلى جانب سوريا، كل من تركيا والعراق وإيران، وربما غيرها.
إن الحديث عن مثل هذه المخططات ليس مجرد تكهنات أو اتهامات جاهزة، بل هو تلخيص لما يدور في أذهان قادة هذا الكيان، والذي عبرت عنه ألسنتهم خلال الأسابيع القليلة الماضية.
هذا التحدي الإسرائيلي، إن لم يتم احتواؤه وإبطال مفاعيله، سيطلق ديناميات جديدة في سوريا الجديدة، ستؤدي بدورها إلى تغيير في أولويات "أجندة الانتقال"، وسيحدث تحولًا في التحالفات والاصطفافات المحلية والإقليمية، وسيفتح أبواب سوريا مجددًا لتدخلات خارجية، سواء من أطراف مخلصة في مشروعها "المقاوم" للهيمنة الإسرائيلية، أو حتى تلك المتسترة بها لتحقيق مآرب جيوسياسية.
اللغم الثاني:
تتجلى في المسألة الكردية، التي تختلف مقاربتها باختلاف الأطراف المعنية. فمن منظور تركي، تندرج هذه المسألة في سياق "الحرب على الإرهاب"، نظرًا لوجود منظمة "بي كا كا" ونفوذها الواضح على قوات سوريا الديمقراطية.
ومن منظور أنقرة ودمشق وبغداد وطهران، تندرج في سياق الحرب على "النزعات الانفصالية" وضرورة الحفاظ على وحدة وسلامة أراضي الدولة السورية، خشية انتقال عدوى الانفصال إلى بقية أضلاع المربع الإقليمي المحيط بالقضية الكردية.
أما من وجهة النظر الأمريكية، فهي سلاح ذو حدين، يمكن استخدامه لابتزاز دمشق بغض النظر عن هوية النظام الحاكم فيها، كما يمكن استخدامه لمواجهة تركيا إذا ما ابتعدت عن المسار المرسوم.
وترى تل أبيب في "أكراد المنطقة" حليفًا مجربًا، وحلمها بإقامة "إسرائيل ثانية" في قلب المربع الإقليمي المذكور بات سرًا مكشوفًا. ومع ذلك، فإننا نبرئ العديد من القوى والفعاليات الكردية من "التوافق" مع هذا المشروع التقسيمي، ونتهم البعض الآخر الذي أظهر في مناسبات عديدة استعداده لـ"التخادم" مع المشروع الصهيوني.
هناك ما يشير إلى أن فرصة التوصل إلى حل سياسي للمسألة الكردية في سوريا لا تزال قائمة، بل وتعاظمت بعد الإطاحة بنظام الأسد، الذي طالما اشتكى حلفاؤه الروس من "تعنته" الشديد وتنكّره لحقوق هذا المكون الرئيسي من مكونات الشعب السوري، بل وتحميله المسؤولية عن إفشال جهود الوساطة التي قاموا بها على خط القامشلي-دمشق. نقول إن هناك فرصة أفضل لتفكيك هذا اللغم، بالاستناد إلى تطورات متسارعة و"نوعية" طرأت على ضفتي الحدود بين تركيا وسوريا.
في تركيا، استبقت أنقرة التغيير في سوريا بإطلاق مبادرة تصالحية مع أكرادها، ومن ضمنهم حزب العمال الكردستاني. والمقترحات التي تقدم بها دولت بهتشلي، حليف أردوغان، للمصالحة عبر دعوة عبد الله أوجلان لمخاطبة نوابه في البرلمان التركي بعد إلقاء السلاح والنزول عن جبال قنديل، أظهرت ميلًا لاستئناف ما انقطع من مصالحات تعثرت في انتخابات 2015.
إن أي انفراجة في المسألة الكردية داخل تركيا ستقود حتمًا إلى انفراجات مماثلة بين أكراد سوريا وأنقرة، التي تلعب اليوم دورًا متعاظمًا في الملف السوري، حتى أن البعض قد يصفها بأنها باتت المايسترو الذي يقود أوركسترا المشهد السوري الجديد.
وفي سوريا، تدرك "قسد" أن النظام السوري الجديد جاد فيما يقوله لجهة توحيد الأرض والمؤسسات السورية، بما في ذلك توحيد الأذرع والمليشيات المسلحة، ودائمًا تحت شعار: دولة واحدة، شعب واحد، وسلاح واحد، وأنه لا سلاح خارج سلاح الدولة.
وتدرك "قسد" كذلك أن العالم برمته ينتظر مجيء إدارة أمريكية جديدة، ليست سوريا في صدارة أولوياتها. وهي، بخلاف إدارة بايدن، لا تكن ودًا خاصًا لأكراد الإقليم وطموحاتهم القومية، وأن "مناكفة" روسيا في سوريا ليس بالأمر الذي توليه أهمية خاصة، بخلاف الإدارة التي سبقتها. وإن جل ما ترغب إدارة ترامب في رؤيته هو أن تصبح سوريا خالية من النفوذ الإيراني، وأن تكف عن ممارسة دورها كـ"محطة ترانزيت" لتصنيع ونقل السلاح إلى حزب الله.
تدرك قسد أن ترامب وفريقه هم الأقل اعتناءً من بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة بقضايا حقوق الإنسان وتقرير المصير، ولا شك أن قادتها يستذكرون اليوم العبارة المنسوبة للرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك، والتي استمعوا إليها مرارًا وتكرارًا: "المتغطي بأمريكا عريان".
لا يعني ذلك للحظة واحدة أن "قسد" و"وحدات الحماية" سترفعان الراية البيضاء غدًا أو بعد غد، كما لا يعني أيضًا أن الأكراد سيتخلون عن طموحاتهم وأحلامهم القومية، لكن المؤكد أن التطورات الجديدة في سوريا ستدفعهم دفعًا للهبوط بسقف توقعاتهم، وربما "الهبوط الآمن عن قمة الشجرة".
في مطلق الأحوال، يتعين أن يكون كرد سوريا حاضرين بحجمهم، من دون مبالغة أو تقزيم، على مائدة صياغة دستور سوريا الجديد. وأن تأخذ سوريا الجديدة بما هو واقعي من طموحاتهم وأحلامهم، وأن يضعوا وحدة الأرض والشعب والدولة في مقدمة حساباتهم، مع مراعاة التنوع وحقوق المكونات والكيانات، وفقًا لما هو متعارف عليه في أفضل التجارب العالمية.
والأهم من كل هذا وذاك هو "فك الارتباط" بين حقوق الأكراد ومستقبلهم في سوريا، وما يعتمل في دول الجوار العربي والإقليمي من تفاعلات وتطورات.
المهمة ليست سهلة، وتشابكات الملف الكردي تلقي بتحديات جسام على الحكم الجديد في سوريا. ويتعين الشروع في تفكيك تلك التشابكات بالحوار مع مختلف الكيانات الكردية السورية، وبالتعاون مع الدول المجاورة، وبالذات تركيا والعراق.
اللغم الثالث:
ربما يكون هذا اللغم هو الأخطر والأكثر أهمية، ويتمثل في تحدي بناء توافقات وطنية سورية جامعة حول الانتقال وقواعده ومراحله وأطرافه وأهدافه. فقوى الثورة وفصائل المعارضة تنحدر من خلفيات وتجارب ومرجعيات متباينة، وأحيانًا متصادمة. والفسيفساء السورية بحاجة إلى "لاصق" قوي يحافظ على وحدتها، وإسقاط أي جزء منها ستكون له عواقب وخيمة.
سوريا لا يمكن أن تحكم بطائفة أو دين أو مذهب محدد، فسورية المتنوعة يجب أن تحكم بنظام مدني ديمقراطي يجد فيه الجميع مكانًا لهم وحصة فيه. وخلاف ذلك، ستعود إلى زمن الإقصاء والتهميش والحكم "الأقلوي".
تواجه سوريا اليوم تحديًا يتمثل في عدم الانجرار إلى إغراء "الأكثرية" وهيمنتها، سواء كانت طائفية أم مذهبية. فالاستقرار والسلم الأهلي لا يتحققان إلا عندما تحترم الأكثرية حقوق الأقليات. وتلك هي المهمة الأساسية للفريق الوطني الذي سيتولى إنجاز مشروع دستور جديد لسوريا، والذي يجب أن يكون جامعًا وشاملًا، لا يترك مكونًا أو كيانًا خلفه، وأن يخضع هذا الدستور لاستفتاء شعبي، أو أن يتم إقراره من قبل جمعية وطنية تأسيسية منتخبة.
هناك أطراف متربصة، داخلية وخارجية، تتحين الفرص وتترصد الفشل. وهناك أطراف ترى في الفوضى وتقسيم سوريا مصلحة عليا لها. وهناك أطراف حاربت "الإسلام السياسي" لعقود خلت، ولم تلق السلاح بعد، ولديها من الخبرات والقدرات ما يمكنها من محاربة هذه الأطراف، كما أثبتت نجاحها في دول وتجارب أخرى عديدة. وهناك من يريد الإمساك بسوريا من يدها المجروحة (إنعاش الاقتصاد وإعادة الإعمار) لتحقيق مآرب أخرى، ليس "التطبيع" المجاني مع إسرائيل سوى واحد منها.
لكن في المقابل، هناك قاعدة اجتماعية شعبية قوية تدعم التغيير والنظام الجديد، وهناك حواضن عربية وإقليمية متينة تدفع باتجاه إنجاح تجربة الانتقال. وهناك مخاوف من تداعيات الفشل وارتداداته لدى أطراف محلية وعربية أخرى، تدفعها لابتلاع قلقها وتحسّباتها ومد يد العون والتعاون مع النظام الجديد في دمشق، وإن من باب "أهون الشرين".
هناك تحديات جمة تواجهها سوريا، لكنها تقابلها فرص سانحة لإعادة بناء البلاد وردها إلى موقعها ومكانتها المرموقة، وتمكينها من استعادة دورها المتميز. تهب على سوريا اليوم رياح عاتية ومتعاكسة، وبيد النخب الحاكمة الجديدة أن تمهد الطريق أمام الفرص وأن تبطل مفعول الألغام الكامنة. فليكن الله في عون سوريا والسوريين.